مازالت ارتدادات زلزال الانتخابات الرئاسية الماضية التي هزمت فيها حركة النهضة التونسية حيث فشلت في استقطاب الناخبين وتجميعهم حول مرشحها عبد الفتاح مورو،وتكشف بوضوح تآكل القاعدة الانتخابية للحركة،تظهر يوما بعد يوم بالرغم من نجاح النهضة في تصدر الانتخابات التشريعية.
وفي خطوة جديدة تكشف حجم الخلافات التي تعصف بحركة النهضة وتصدع بنيتها الداخلية، أعلن زياد العذاري أمينها العام التنفيذي زياد العذاري عن استقالته من أي خطة قيادية للحزب أو الكتلة أو أي مسؤولية في الحكومة القادمة، ملقيا الضوء على مدى التخبط والارتباك داخل حركة النهضة والذّي لم ينتهي مع انتهاء فوزها بالانتخابات التشريعية وسعيها لترشيح شخصية قريبة منها لتشكيل الحكومة القادمة.
وقال العذاري في رسالة استقالته، التي نشرها على صفحته بموقع « فيسبوك »، إنّه اضطر للتخلي عن كل مسؤولية حزبية أو حكومية، لأنّه « غير مرتاح البتة للمسار الذي أخذته البلاد منذ مدة وبخاصة عدد من القرارات الكبرى لحزب النهضة في الفترة الأخيرة، كما لم أقتنع من جهتي بخيارات أخذتها مؤسسات الحزب (آخرها كان ملف تشكيل الحكومة القادمة)، أرى أنّها لا ترتقي إلى انتظارات التونسيين ولا إلى مستوى الرسالة التي عبروا عنها في الانتخابات الأخيرة، بل إنني أحس وكأننا بصدد استعادة نفس أخطاء الماضي ».
ووجهّ العذاري انتقادات لاذعة لحزبه بعد تمسكه برئاسة الحكومة، معتبرا أن « حصول حركة النهضة على رئاسة البرلمان يقتضي الذهاب في الحكومة إلى شخصية انفتاح مستقلة مشهود لها بأعلى درجات الكفاءة والنزاهة والجرأة تطمئن وتجمع أوسع طيف ممكن من التونسيين وتكون قادرة على استعادة الثقة في الداخل وتعزيز إشعاع تونس في الخارج ». كما اتهم الحركة بـ « السير بالبلاد في مسار خاطئ ومحفوف بالمخاطر ولا يعبر عن طموحات التونسيين »، من خلال اعتمادها على منطق الولاءات والمحاصصة الحزبية في اختيار الأسماء التي ستشكل الحكومة المقبلة، دون الأخذ بعين الاعتبار توفر عنصر الكفاءة.
والعذاري هو الأمين العام لحركة النهضة، ومن أبرز الوجوه الصاعدة فيها، تولى عدّة مناصب عليا في الدولة، حيث التحق بالحكومة منذ 6 فيفري 2015 وتقلد خطة وزير التكوين المهني والتشغيل قبل تسميته في أوت 2016 وزيرا للصناعة والتجارة ثم وزيرا للتنمية والاستثمار والتعاون الدولي في سبتمبر 2017، إلى أن استقال من هذا المنصب مطلع هذا الشهر، بعد انتخابه عضوا في البرلمان.
استقالة العذاري تمثل ضربة كبيرة لحركة النهضة وتؤشر على وجود « تصدّع داخلي كبير » داخل هذا الحركة وغياب بوصلة الحكم لديها نتيجة تخبط خطابها الذّي لا يزال ضبابيا إلى اليوم، بالرغم من محاولات القيادي في الحركة عبد اللطيف المكي التقليل من تداعيات هذه الخطوة على وحدة الحركة حيث قال في تصريح لإذاعة « موزاييك » المحلية أن « وجهة نظر العذاري تلزمه وحده وربما كانت تحت ضغط اللحظة، معتبرا أنّ الخلافات داخل حركة النهضة سببها البحث على مصلحة البلاد مؤكدا أنّ تشكيل الحكومة الجديدة لن يتأثر باستقالة هذا او ذاك »، على حد تعبيره.
محاولات حركة النهضة الاسلامية لإخفاء خلافاتها الداخلية والصراعات التي تدور في أروقتها ليس بجديد، فالحركة التي تسعى لإظهار نفسها في شكل متماسك ومنظم، تعاني منذ سنوات من تصدع داخلي كشفت عنه استقالات وانشقاقات متتالية شملت جميع المواقع والمسؤوليات بهياكلها نتيجة سياسات رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي بات في مرمى انتقادات أنصاره قبل أعدائه.
فمنذ العام 2013 تواصلت موجة الاستقالات داخل الحركة –بين الفينة والأخرى-انطلقت مع عضو مجلس الشورى رياض الشعيبي الذي أعلن في نوفمبر 2013، عن استقالته من الحركة احتجاجاً على ما سمّاه « التفريط في مطالب الثورة، وإعادة دمج رموز النظام السابق في الحياة السياسية ». ومثلت هذه الخطوة أول استقالة لمسؤول بارز في حركة النهضة منذ وصولها السلطة بتونس في خريف العام 2011
عقب ذلك تتالت الاستقالات، لتنال من الأمانة العامة للحركة في نوفمبر 2014 حيث أعلن حمادي الجبالي، الأمين العام للحركة حينها استقالته، وقال إنه سيتفرغ للدفاع عن الحريات في ظل مخاوف من عودة الاستبداد، بحسب تعبيره. وقال الجبالي في بيان إنه لم يعد يجد نفسه في خيارات حركة النهضة في المجالات التنظيمية والتسييرية والسياسية والاستراتيجية. وأضاف أنه قرر الانسحاب من الحركة -التي قال إنه انضم إليها منذ سبعينيات القرن الماضي-حتى لا يحمل غيره مسؤولية مواقفه، ولا يتحمل هو تبعات قرارات وخيارات لم يعد يتفق معها.
وفي العام 2019، كانت حركة النهضة على موعد مع سلسلة من الاستقالات حيث أعلن القيادي محمد غراد في 16 يونيو 2019 استقالته من مهامه في حركة النهضة، وقال غراد في تدوينة له أنه يتخلى عن مسؤولياته ضمن مكتب علاقات خارجية حركة النهضة، لأسباب « يحتفظ بها لنفسه في الوقت الحالي ».
وفي 8 جويلية 2019، قدم القيادي في حركة « النهضة » لطفي زيتون استقالته من منصب المستشار السياسي لرئيس الحركة راشد الغنوشي، ونشر زيتون، تدوينه عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي « فيسبوك » أعلن فيها استقالته من منصبه دون توضيح أسباب. وقالت تقارير اعلامية نقلا عن مصادر مقربة من الحركة: إن « علاقة زيتون بالحركة تصدعت منذ نحو عام بسبب معارضته سياسة راشد الغنوشي الذي ينفرد برأيه، واحتجاجا على الأطروحات الفكرية التي يراها إخوانية ».
وفي نفس الشهر، أعلن القيادي الجهوي بحركة النهضة في قفصة عليّ الشرطاني، عن استقالته من الحركة و »انسحابه نهائيا من تنظيمها »، قائلا « إن قيادة حركة النهضة عبرت بكل وضوح عن سياستها الاستئصالية تجاهه دون مبرر يذكر ودون أي حرج ولا أي توضيح ». ونشر عليّ الشرطاني على صفحته الخاصة على الفيسبوك تدوينات متفرقة انتقد فيها حركة النهضة بشدة حتى أنه وصفها بـ »الاقصائية » واللاديمقراطية ». وأفاد الشرطاني بأن السبب وراء استقالته يعود إلى عدم رغبة قيادة الحركة في استمرار وجود الأحرار في صفوفها. وأضاف: « لا مكان لعلي شرطاني الذي أمضي في الحركة 40 عاما بالقائمة الانتخابية وهو الحائز على 107 أصوات وقد كان فيها مكان لمن له 50 و60 صوتا »، في إشارة إلى الانتخابات الداخلية التي أجرتها النهضة حينها في علاقة بالأسماء التي سترشحها للانتخابات التشريعية.
وفي 24 جويلية 2019، قدم حافظ الوسلاتي الكاتب العام للمكتب الجهوي لحركة النهضة بالقيروان باسمه وباسم المكتب الجهوي استقالتهم إلى المكتب التنفيذي للحركة على خلفية القائمة المقترحة للانتخابات التشريعية معتبرين أنّها مسقطة. وفي 25 جويلية 2019، أعلن عضو مجلس شورى حركة النهضة حاتم بولبيار، في تدوينة نشرها على حسابه بالفاسبوك، عن استقالته من الحركة التي انخرط فيها منذ 8 سنوات. ولم يوضح بولبيار أسباب استقالته. وكان بولبيار قد انتقد بشدة القائمات الانتخابية لحركة النهضة وأبدى عدم رضائه عن اختيارات المكتب التنفيذي والتغييرات التي عرفتها القائمات مقارنة بالانتخابات الداخلية.
وفي 17 سبتمبر 2019، أعلن القيادي في حركة النهضة ومدير مكتب راشد الغنوشي، زبير الشهودي، استقالته من الحزب، ووجّه الشهودي في رسالة الاستقالة التي نشرها على صفحته بموقع « فيسبوك » انتقادات لاذعة للحزب، قائلاً: « أعلن إنهاء كل مهامي القيادية في حركة النهضة والالتحاق بعامة المنخرطين. استجابةً للرسالة مضمونة الوصول من الشعب العظيم »، في إشارة إلى النتائج التي أفرزتها الانتخابات الرئاسية والتي مني فيها مرشح الحركة عبد الفتاح مورو بهزيمة موجعة. ودعا الشهودي رئيس الحركة راشد الغنوشي المرشح إلى الانتخابات البرلمانية إلى اعتزال السياسة وملازمة بيته، كما طلب منه إبعاد صهره رفيق عبد السلام وكل القيادات الذين دلسوا إرادة الناخبين داخل الحزب وقاموا بإقصاء كل المخالفين في الرأي، حسب تعبيره. في مشهد كشف بشكل كبير عن حجم الرفض لسيطرة الغنوشي على مقررات هياكل الحركة وتوجيهها لخدمته وخدمة بطانته المقربة.
وتعكس هذه الاستقالات، حجم التصدّع الذي تعيشه حركة النهضة والخلافات التي يبدو أنها تتعمّق شيئا فشيئا مع اختيار رئيس الحركة رئاسة البرلمان، والتفرّغ لشؤونه وجعل رئاسته لحزبه محلّ صراع بين القيادات العليا لخلافته خصوصا وأن المنافسة على أشدها اعتبارا وأن الذّي سيحظى بثقة الأغلبية لخلافة الغنوشي سيحدد تموقعه داخل النهضة قبل انعقاد مؤتمرها المقبل 11 الذّي من المنتظر ان ينعقد في أواخر ربيع 2020.
وبحسب الباحث في الجماعات الإسلامية عبد العزيز المكي، فإن استقالة العذاري سيفتح الباب أمام استقالات أخرى داخل النهضة، لأن الصراع بداخلها يتوزع بين صراع على خلافة الغنوشي وعلى التموقع في الحكم، مبينا أن الحركة كيان سياسي تجاوز مرحلة العقائدية إلى مرحلة الانتهازية. ونقلت « العين الاخبارية » عن المكي، قوله إن »النهضة » تمضي إلى حقبة تاريخية من التصدع الداخلي، وذلك بعد احتدام الصراع بين قياداتها على النفوذ المالي والغنائم الاقتصادية في ظل استفراد عائلة الغنوشي بالثروة الطائلة.
وتحصلت حركة النهضة على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بحصولها على 52 مقعدا فقط من إجمالي 217، أفرزت برلمانا منقسما بشكل حاد مما يعقد الوضع ويتطلب تكوين ائتلافات لتشكيل حكومة. وحصل التيار الديمقراطي على 22 مقعدا وائتلاف الكرامة المحافظ على 21 مقعدا وحركة الشعب على 16 مقعدا.
وتضع هذه الأحزاب المحسوبة على الخط الثوري شروطا لقبول المشاركة في الحكومة، وتلوح بالاصطفاف في المعارضة في حال لم تقتنع بتوجهات الحكومة المرتقبة، ما يزيد من ارتباك حركة النهضة التي يرى مراقبون أن مواقفها خلال المشاورات الحكومية متخبطة بين الاقتراب من حزب « قلب تونس » أحيانا وأحيانا أخرى مغازلة الأطراف المتشددة دينيا على غرار ائتلاف الكرامة وهو ما يعكس حجم المأزق الذي تعيشه.
ووصلت مشاورات ومفاوضات تشكيل الحكومة التونسية الجديدة، التي يقودها الحبيب الجملي، المكلّف من طرف حركة « النهضة »، إلى أسبوعها الثاني، دون أن تنكشف ملامح التحالفات والائتلافات الحزبية، وسط مخاوف من انسداد الافق في ظل الخلافات الكبيرة التي تشق الاحزاب وفي ظل ضغط الآجال الدستورية ما يشكل تحديا كبيرا للبلاد التي تنتظر حلولا عاجلة للأزمة المالية الخانقة ولكبريات الملفات التي تطرح نفسها على الساحة التونسية.